من هو ابن خلدون؟

هو مؤرخ وأستاذ للعلوم الاجتماعية والتاريخ الثقافي الحديث في عصر الإمبراطورية الحفصيّة.


وهو ولي الدين عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر محمد بن الحسن بن خلدون المالكي الحضرمي، ويُكنى بابن خلدون، كان بمثابة الأب لعلم الاجتماع الذي طور العلوم الإنسانية قبل أوروبا ببضعة قرون؛ إذ إنه شرح المبادئ الهامة للتغيرات الاجتماعية وعلم اجتماع العلوم الإنسانية في المجتمعات الشرقية، والتغير الاجتماعي القائم على تحول المُجتمعات البسيطة إلى المُعقدة، واستنتج نظرية نقديّة اقتصاديّة استخدمت من قبل علماء الأنثروبولوجيا المعاصرين وعلماء الاجتماع لشرح أحداث تطور المدن والحضارات والتاريخ، وهو قائد مدرسة فرانكفورت لعلم الاجتماع التي تنادي بإصلاح الحضارة الحديثة.[١][٢]


مولد ابن خلدون ونشأته

ولد ابن خلدون في تونس في القرن الرابع عشر عام 1332 ميلاديًّا، في تونس شمال أفريقيا، ووالده مُسلم سني مؤثر، وتنتمي عائلته إلى طبقة اجتماعيّة ذات مكانة عاليّة، وكان والده هو المؤثر الأول في مرحلته التعليميّة المُبكرة، وأول من علمه التفكير المُستقل والصوفيّة. [٣]


ثقافة ابن خلدون وعلمه

تتلمذ ابن خلدون على يد نخبة من علماء المسلمين من إسبانيا، وشمال إفريقيا، ودرس العلوم الدينية التي تشمل القرآن والحديث النبوي، والفقه الإسلامي، والصوفية، والعلوم الفلسفية العقلانية؛ كالمالتيفيزيا وعلم الفلك، والرياضيات، والمنطق، والفن، والتاريخ، وتوافق فكره الفلسفي مع العلامات الراسخين من أمثال الفارابي وابن سينا،[٢] وكان خبيرًا بالعلوم النظريّة وراسخًا في العلم، وضليعًا في الفنون الأدبيّة، وكان حافظًا للقرآن الكريم، والشعر، والمُلعلَّقات، وغيرها من المنظومات العلمية، وهو خريج جامعة الزيتون في تونس، ومُدرّس للعلوم الإنسانيّة، كما شغل عدّة مناصب رئاسيّة رفيعة، أبرزها منصب رئيس وزراء سلالة الحفصيين في أفريقيا، ورئيس قضاة المحكمة العليا لسلالة المماليك في مصر، كما أنه مؤسس لعلم الاجتماع بعد أن درسه بالتفصيل، ورائد في إنتاج العلوم الإنسانيّة، ونموذج دائم للتدريس من رياض الأطفال إلى التعليم العالي.[٤]


كما أنه كان دؤوب البحث حول الفلسفة والكتابات اليونانية والرومانية الكلاسيكية، وقرأ أعمال أفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة ليقوده طموحه الأكاديمي والنقدي إلى أن يُصبح سكرتيرًا لدولة السلطان أبي عنان في إمارة المغرب في عمر العشرين، وبعدها انتقل إلى مضيق جبل طارق وانتخب ليكون صاحب إقطاعية لسلطان غرناطة، ثم أرسله السلطان في مهمة للقاء بيدرو (بيتر) ملك قشتالة، لكنه تعرض لنزعات سياسيّة مُختلفة أثناء ذلك.[٥]


نهج ابن خلدون المنطقي والفلسفي

يرى ابن خلدون بأنه ثمَّة طائفتَين من العلوم، وهما؛ العلوم العقلية والعلوم النقلية، وتُحصّل العلوم العقلية التي يتداولها البشر ويخوضون بها ويهتدون إليها من خلال الحواسُّ والعقل والفكر، وأما النقلية التي يأخذها عمن وضعها فتُحصّل من خلال الوَحي، ومتى ما حاول المرء تحصيل العلوم الأولى بأداة العلوم الثانيّة يقع الخطأ، ويُقر بأن العقل هو الفيصل الذي ينتزع المعاني المُجردة من الموجودات الحسيّة ويُطابق كل معنى مجرد صالح على جميع مفردات النوع الواحد، وتُسمى المعاني المُجردة من المحسوسات بالمَعقولات الأوائل، وبعدها تُجرَّد هذه المعاني الكلية إلى مَعانٍ أخرى أعمُّ منها، وتُعاد لتجرد إلى معانِ ثالثة ورابعة وهكذا إلى أن تنتهي بالمعاني البسيطة الكلية التي تنطبق على جميع المعاني والمُفردات الجُزئية، فلا يمكن تجريدها إلى ما هو أبسط منها، وعند تآلَف هذه المفردات مع بعضُها مع بعض، تُحصّل العلوم والتي تُعرف بالمعقولات الثواني، ومن أبرز مُلخصات آراء ابن خلدون الفلسفيّة ما يأتي:[٦]

  • اعتماد الفلسفة على العقل وحده فيه قُصورٌ عمَّا وراء ذلك مما رُتَب من خلق الله، ويُشبه اكتفاء الفلاسفة بالعقل اكتفاء الناس الطبيعيِّين بالأجسام المادية وحدَها دون العقل والنقل معًا فهم لا يعتقدون أن وراء المحسوسات شي، والفلاسفة يعتقِدون أنه ليس وراء المعقولات شيء، وكلهم قاصرون وسواء.
  • عند تجريدِ المعاني الكلية من الموجودات الحسِّية ومُطابقة الأولى للثانيّة وهو ما يعرف بالعلم الطبيعي فإن ذلك يعد قصورًا؛ لأنه عند إبطال الفلسفة على أساس أنها تُجرد من المحسوسات معقولات، وبعدها تعود لتزعم أن هذه المعقولات مُطابِقة للمحسوسات رغم أنه لا فرق بين الجانبين، وعندها لو أبطلت الفلسفة ستبطل العلوم الطبيعيّة كلها وتضم علم الاجتماع الذي اجتهد ابن خلدون لبنائه.


فلسفة ابن خلدون الاجتماعيّة والسياسيّة

استمد ابن خلدون فلسفته الاجتماعيّة وآراءه السياسيّة ومُثله السامية من المطالعة الواسعة وخبرته في التاريخ، ومن الأمثلة على فلسفته الاجتماعية:[٧]


مغلوب مولع بتقليد الغالب

حيث فسّر هذه الفلسفة بأن النفس تعتقد الكمال في الشخص الذي تنقاد إليه ويغلبها، بسبب نظرتها الموقرة له وتعظيمه، وهي نظرية سادت في الأقوام الجاهلة والشعوب التي تُقلد غالِبها بإفراط وتتشبُّه به في الشعار والعادات حتى تندمج في بني جنسه، وتفنى في قبيل عنصريته.[٨][٧]


الأمة المغلوبة يسرع فناؤها

وضّح ابن خلدون أن العلة تقع في نفوس الأمم التي يُصيبها التكاسل عندما تخضع وتُستعبد لغيرها، فينطفئ شعاع الأمل، وتخضع لمن يغلبها، وبالتالي يجب على حكّام هذه الأمم أن يعالجوا جهل رعاياههم الذي يكون بمثابة داء قاتل، ويبثون فيهم روح النجاة وأمل الخلاص من جديد، من خلال ضرب الأمثال وسرد روايات الأمم التي خلعت رداء الخضوع، وتخلّصت من سلطة الغريب، فيربونهم على العظمة والشدّة، ودرء الظلم، واستصغار العظائم، واستذكار الأمجاد، ويُشعلون فيهم روح المنافسة والعلم، التي هي من أسباب القوة ودفع الغالب، و كانت الأمة فئةً قليلة وبلغ خصمها من العدد الكثير، فلا تُحقّرن من نفسها بل تُصارع الغاصب بقوّة وعزم.[٨]


العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك

ولا يُراد بفلسفته هذه الحط من شأن العرب، بل يقصد الأعاجم الذين يريدون السيطرة على بلادهم وفرض السلطة عليهم، تحت ذريعة أن العرب عاجزون عن الاستقلال وإدارة سياستهم بيد مستقلة.[٩]


الفكر الاقتصادي لابن خلدون

استند ابن خلدون في نهجه الاقتصادي ومُعتقداته واستنتاجاته إلى الحقائق المنطقية والواقعيّة، وبالرجوع إلى ديانته الإسلامية العلميّة، فكانت نظرته للتنميّة والاقتصاد تشترط احترام القوانين الدينيّة والعلميّة للعقيدة وعدم انتهاكها، فكان يُناقش النمو والتنمية الاقتصاديّة كأساس لسقوط أو صعود الحضارة، وهو ما يُشابه المفهوم الاقتصادي الحالي للاستدامة والتطوير، ومن أبرز ملخصاته وأفكاره ما ياتي:[١٠]

  • قوة الملك لا تتحقق إلا بتطبيق الشريعة، والتي بدورها لا تُنفّذ إلا بسلطة الملك، وفي الوقت نفسه، فإن الملك لا يُمكنه اكتساب القوة إلا من خلال الرجال أي الشعب الذي يحكمه.
  • تطور أو تدهور الاقتصاد يرتبط بالمُجتمع الذي اعتمد أيضًا على التفاعل الأخلاقي والاجتماعي للأفراد بالتزامن مع العوامل الاقتصادية والسياسية الأخرى، ويُشير بأن الوصول للثروة يتطلب المُشاركة في التنميّة، وهو ما يُمكن تحقيقه بالاتكاء على المبادئ القانونيّة والأخلاقيّة، وإيجاد حافز للناس يحثهم على المُشاركة في ازدهار الاقتصاد واستخدام قوتهم، ولبعد تحقيق العدالة والتكافؤ في كسب الثروة بينهم.
  • نظريّة التعاون والتنظيم الاجتماعي؛ ومضمونها أن المرء يعجز عن تحقيق احتياجاته من تلقاء نفسه، وأنه يتوجب عليه أن يتعاون مع باقي أفراد المجتمع لتحقيق المنفعة المُشتركة،[١٠] كما شجع ابن خلدون الدولة على الاهتمام برفاهيّة الشعب، وأكد على أهمية الإنفاق العام عبر استغلال الثروة التي تكسبها من جباية الضرائب، وأشاد أن التمكين الاقتصادي يُمثل مجتمعًا مزدهرًا يُقاوم الجوع والكسل.[١١][١٢]
  • نظرية السعر؛ والتي قسم من خلالها البضائع إلى ضروريات وكماليات، وطالب بتفاعل العرض والطلب في الكمية المنتجة وسعر البضائع،[١٣] وذلك بتخزين الضروريات، وإنتاج الكماليات بنطاق محدود وبسعر مُتباين بحسب حاجة الجمهور لها، وهنا تكون الضروريات والسلع التي تُنتج بكميات كبيرة؛ كالحبوب والطعام رخيصة الثمن.[١٤]
  • التأثير الضريبي السلبي على الحضارة وتقدّمها، إذ أكد على ضرورة تخفيض الضرائب، وأن الزيادة في الضرائب تُقل الإيرادات والإنتاج، وتؤثر على رأس المال والتنميّة.[١٥]


أساتذة ابن خلدون

تتلمذ ابن خلدون على أيدي أساتذة من مختلف المجالات، منهم العبيلي، كما درّسه أعلام علماء المسلمين، مثل؛ ابن رشد، وابن سينا، ​​والرازي.[٣]


أشهر أعمال وإنجازات ابن خلدون

  • العبر وديوان المُبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر: وهو سرد تاريخي لجوانب التاريخ الإسلامي، خاصةً في الشمال الأفريقي على النمط التقليدي. [١٦]
  • التعريف: وهو كتاب أرخ فيه ابن خلدون حياته، وذكر ما يتصل بتاريخه من الرسائل والحوادث والخطب والوثائق، ووصف حال المجتمعات والنظم المتعلقة بها.[١٧]


كتاب المُقدمة لابن خلدون

يُعد كتاب المُقدمة لابن خلدون من أشهر الإنجازات الفكرية في العصور الوسطى، ويراه بعض المُفكرين، وعلماء النفس، وعلماء الاجتماع، والاقتصاد، والسياسة كنزًا ومُساهمة كبيرة في الفكر الاقتصادي من خلال الدعوة للإصلاح الضريبي؛ إذ يُجادل ابن خلدون فيه بقوة نهج المُعدل المُنخفض للضريبة، وأن ارتفاع المُعدل الضريبي يُقلص القاعدة الضريبيّة ويُقلل من النشاط الاقتصادي، ويُثبط حافز العمل، وبالتالي أكد على أن نظام التخفيضات الضريبيّة والخصومات بمثابة حوافز تُعزز النمو الاقتصادي.[١٨]


أشهر مقولات ابن خلدون

  • إن المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده.[٧]
  • إن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء.[٧]
  • لا تحقرن صغيرا في مخاصمةِ* فإن الذبابة أدمت مُقلة الأسدِ.[٨]


وفاة ابن خلدون

عُزل ابن خلدون في آخر سنوات عمره من منصب قاضي المالكيّة، وزهد عن شؤون الدنيا، واستمر فقط بالتدريس، وبتولي المناصب العلميّة، وبعدها عاد له منصب قاضي المالكيّة وتكرر عزله وإعادته أكثر من مرة، وفي 26 رمضان عام 808هـ، والموافق 16-3-1405 توفي ابن خلدون بشكل مُفاجئ عن عمر يُناهز 78 سنة، ودفن في القاهرة في مقابر الصوفيّة.[١٩]

المراجع

  1. Vegneskumar Maniam, THE RELEVANCE OF IBN KHALDUN S IDEAS TO AUSTRALIAN TEACHER EDUCATION PROGRAMS TODAY, Page 1. Edited.
  2. ^ أ ب Mohamad Abdalla, Ibn Khaldun, Page 1. Edited.
  3. ^ أ ب Vegneskumar Maniam, AN ISLAMIC VOICE FOR OPENNESS, Page 4. Edited.
  4. Dr Mohammareza Shahidipak, Ibn Khaldun as a paradigm for the past and future of sociology and humanity, Page 1. Edited.
  5. Vegneskumar Maniam, AN ISLAMIC VOICE FOR OPENNESS, Page 5. Edited.
  6. "موقف ابن خلدون من الفلسفة١"، هنداوي، اطّلع عليه بتاريخ 18-4-2021. بتصرّف.
  7. ^ أ ب ت ث محمد الخضر حسين، حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية، صفحة 30. بتصرّف.
  8. ^ أ ب ت محمد الخضر حسين، حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية، صفحة 31. بتصرّف.
  9. محمد الخضر حسين، حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية، صفحة 32. بتصرّف.
  10. ^ أ ب Mohammad Tahir Sabit Haji Mohammad PhD, PRINCIPLES OF SUSTAINABLE DEVELOPMENT IN IBN KHALDUNS ECONOMIC THOUGHT, Page 6. Edited.
  11. Mohammad Tahir Sabit Haji Mohammad Ph D, PRINCIPLES OF SUSTAINABLE DEVELOPMENT IN IBN KHALDUN S ECONOMIC THOUGHT, Page 7. Edited.
  12. Mohammad Tahir Sabit Haji Mohammad PhD, PRINCIPLES OF SUSTAINABLE DEVELOPMENT IN IBN KHALDUN S ECONOMIC THOUGHT, Page 8. Edited.
  13. JOE MCCAFFREY, IBN KHALDUN: THE FORGOTTEN FATHER OF ECONOMICS, Page 1. Edited.
  14. JOE MCCAFFREY, IBN KHALDUN: THE FORGOTTEN FATHER OF ECONOMICS, Page 2. Edited.
  15. JOE MCCAFFREY, IBN KHALDUN: THE FORGOTTEN FATHER OF ECONOMICS, Page 4. Edited.
  16. محمد العيسوي، نظرية التعاقب الدوري عند ابن خلدون، صفحة 6. بتصرّف.
  17. محمد العيسوي، نظرية التعاقب الدوري عند ابن خلدون، صفحة 7. بتصرّف.
  18. Abdul AZIM ISLAHI, IBN KHALDUNS THEORY OF TAXATION AND ITS RELEVANCE, Page 1. Edited.
  19. عبد الحق حمِّيش، الفكر الاقتصادي عند العلامة ابن خلدون مقارنة مع النظريات الاقتصادية الحديثة، صفحة 7. بتصرّف.